روايات شيقهرواية وبقي منها حطام أنثى

رواية وبقي منها حطام أنثى للكاتبة منال سالم و ياسمين عادل الفصل الثلاثون

(( تباً، مَا هَذَا الشَوق الذِي لَا يَمُوت؟
وَكَأنَه تَخَلد بِصَدرِي وَأَنفَاِسي..
وَأَنَا أَهمِسُ إِسمُها بِخُفُوت، ))
انخلع قلبه بقوة، واهتز كيانه فجأة بعد أن خارت قواها واستسلمت لنوبة عميقة من النوم الغير إرادي..
أمسك بها جيداً، و ظل ينادي باسمها لعلها تفيق وتلبي ندائه، ولكنها أثرت أن تغادر أرض الدنيا لبعض الوقت..
وخزات تنغز بصدره آلماً من رؤية شحوبها والهالات السوداء التي تكونت أسفل عينيها..

ظل مطبقاً على خصرها وهي بين أحضانه والصغيرة على يده الأخرى، وكأنهما عائلته الصغيرة يحميهما من غدر الزمن وأخطاره…
استمعت الخادمة راوية لصوته المفزع فصعدت راكضة لترى ما الذي يحدث بالأعلى، وما أن رأته مماسكاً بها بشدة يخشى عليها من السقوط حتى شهقت بقوة ممزوجة بالفزع وهي تضع كفيها على وجهها، فصاح بها أن تتحرك لتلتقط ريڨان من يديه والتي كانت على وشك البكاء على أثر صوته وهو يهدر بها..
صاح بإنفعال كبير:.

أمسكي البنت انتي هتفضلي متنحة كتير!
لم تفتح فمها بحرف واحد، بل التقطت منه الصغيرة لتسنح له الفرصة كي يطبق على معذبته بذراعيه جيداً..
حملت راوية الصغيرة وحاولت تهدئتها، ولكنها كانت متخبطة في أمرها، و مذبذبة التفكير لا تدري ما تفعله حيال هذا الموقف المفاجيء، حتى أسعفها هو وأنقذها من حيرتها الصادمة بعبارته وهو يصيح فيها بهلع:.

روحي كلمي الدكتور خليه يجي على هنا فوراً، سامعة، يسيب أي حاجة في إده ويجيلي هنا حالاً!
أجابته راوية وهي تهز رأسها بتوتر جلي:
ح، حاضر!
سارت بخطوات متعجلة وهي تطبق على الصغيرة بكفها على ظهرها حتى لا تنفلت منها، وعقلها مشغول بأمر واحد هو تنفيذ أوامره حرفياً..
طالع مالك إيثار بنظرات خائفة متلهفة، لا يعرف ما الذي تحملته لتنهار هكذا، وما الذي تقصده بكلمتها المقتضبة ونظراتها المعاتبة..

تلك النظرات التي أصابته في مقتل، وهزت أقوى حصونه المنيعة..
وضع هو ذراعه أسفل ركبتيها ليحملها، وأحكم الأخرى حول خصرها، ورفعها بالقرب من صدره الذي يجيش بإسمها رغماً عنه
خرج بها من غرفة صغيرته ليتجها بها إلى غرفته، ثم دنا من فراشه، ووضعها عليه برفق ولين شديدين..
لم تتركها عيناه للحظة واحدة..
كان متلهفاً عليها بكل جوارحه..

مسح بكفه على بشرتها بحذر، والتقط بأنامله عبرة عالقة بأهدابها كادت تسقط لولا أن التقطها بهم..
عبس وجهه وإزداد ضيقاً وهو يراها بهذه الحالة الواهنة..
لم تعد كما كانت، خطى الزمن على وجهها علامته حتى باتت بقايا أنثى عرفها يوماً..
هو يعتصر آلماً بداخله، و القسوة التي كان يظهرها لها إنهارت مع إنهيارها..
غضبه منها لا يقارن بلهفته عليها..
ولكن ما من سبيل آخر يلجأ إليه للتنفيس عن كم غضبه منها..

فآجلاً أو عاجلاً سيؤول إلى زوال..
هتف باسمها وهو يقترب من أذنيها مردداً بنبرة شجية وهو يمسد على جبهتها بخوف بيّن:
إيثار! فوقي عشان خاطري، قوليلي اللي عايزة تقوليه! إيثار!
ولكن لا حياة لمن تنادي، ابتعد برأسه وهو يقبض على عينيه كابحاً الوميض الذي يسبق عبراته غالباً، ..
وقعت عينيه على كفها الذي لا يحمل خاتم زواجها فعاود نظراته السائلة لها وكأنه يحدثها عن ذلك الذي اختطفها من بين أحضانه لتكون له..

مد يده ليمسك بكفها، وأطبق عليه راحتيه فوجده بارداً گقطعة الثلج، فانتفض قلبه المُضخ للدماء من بين ضلوعه وظل يفركه بقوة و بعجلة وينفخ بأنفاسه الحارة مجاهداً لبث الحرارة فيه..
ثم وضع كفه على وجنتيها يتحسسها برفق وهو يهمس بخفوت لمس روحها الضائعة بعالمها الآخر:
إيثار! متعذبنيش أكتر من كده أرجوكي، أتحركي أصرخي أعملي إي حاجة، بس حسسيني أنك هنا معايا!

لحظات صمت أخرى مرت عليه وكأنها أدهر وهو ينتظر منها إشارة متمنياً رؤية عيناها، ولا إرادياً وضع سبابته على مكان الوغزة التي في وجنتيها..
كم اشتاق لرؤية تلك الغمازتين اللاتين تنيران وجهها حينما تضحك..
قطع عليه لحظته الفريدة معها صوت راوية المقترب من الحجرة وهي تحدث الطبيب الذي حضر للتو قائلة بهدوء:
أتفضل يادكتور من هنا!

استقام مالك في وقفته ثم شد الغطاء عليها حتى لا تقع عيني الطبيب عليها، مازال يغار عليها من أعين الرجال وأشباههم..
ثم نظر بإتجاه الباب منتظراً وصوله لأرض الحجرة حتى وقعت عينيه عليه، فدنا منه وصافحه بحرارة وهو يهتف بلهجة ملتاعة مذعورة:
أهلا يادكتور، آآ، هي كانت كويسة و، و فجأة كده أغمى عليها، من ساعتها وهي زي ماانت شايفها!
اقترب الطبيب ثم مد يده ليلمس جبهتها، فوجد حرارتها أقرب لأن تكون طبيعية للغاية..

هز رأسه مستفهماً ثم أسند حقيبته الجلدية على حافة الفراش وأخرج منها جهازاً طبياً لقياس ضغط الجسم، وأشار للخادمة وهو يردد بجدية:
لو سمحتي ممكن تساعديني؟!
نظر لها مالك شزراً ثم نطق بإنزعاج ولهجة مقتضبة آمرة:
اتحركي ياراوية
تحركت راوية ممتثلة لأمره بإتجاه الطبيب ثم وقفت تنتظر أوامره حتى هتف لها بثبات:
أرفعي كم البلوزة من فضلك عشان أقيس الضغط.

تابع مالك الموقف وهو يفرك كفيه بتوتر، حتى شعر بجفاف حلقه من هول القلق خوفاً عليها.
لم يكن يعلم أنه مازال يكّن لها كل هذا الحب والشوق بل وأكثر مما مضى..
وما كان بغضه منها وكره لها إلا حباً متمرداً على الوضع الذي هو فيه.
كان يتابع الطبيب بعينيه، ولكن عقله كان شارداً فيها، يفكر فيما قالته قبل أن تفقد وعيها بما حولها…

حاول ربط الخيوط جيداً بما قالته روان عما يخص العزاء وما قالته هي من كلمة واحدة مقتضبة، هز رأسه بقوة ليفيق على صوت الطبيب وهو يقول بجدية:
ضغطها مظبوط، لكن السكر واطي جداً في الجسم وطبعاً ده بيأثر على أدرينالين الجسم، أنا أدتيها حقنة دلوقتي تظبط نسبة السكر في الدم وهي محتاجة تتغذى كويس وتشرب حاجة مسكرة!
هز مالك رأسه بتفهم وهتف بنبرة ممتنة:
شكراً ليك، خليكي معاها يا راوية وأنا هوصل الدكتور!

ثم أشار بيده له واصطحبه للخارج وهو يتسائل بفضول مصحوب بالخوف:
مفيش إي علاج أو ڨيتامينات ممكن تاخدها؟
رد عليه الطبيب وهو يهز رأسه نافياً بلهجة رزينة:
المدام مش محتاجة غير جو نفسي هادي، ومثيرات نفسية تساعدها تخطي أزمتها، واضح أن عندها انهيار نفسي وعصبي!
برر مالك إصابتها وهو يمسح بكفه على جبهته بقلة حيلة حيالها:
آآ، أصل حصل حالة وفاة عندها وو، يمكن يكون ده أثر عليها.

أكمل الطبيب وهو يسبقه بخطواته ليكون أمامه:
تهيئة الجو النفسي للمريض عامل مهم جداً، هو ده العلاج الوحيد
ثم التفت إليه، ونطق وهو يشير له محذراً:
دوام الحالة دي وإستمرارها كتير مش هيكون في صالحها!
رد عليه مالك وهو يهز رأسه متفهماً:
تمام تمام، شكراً ليك، وفي أي وقت هتعدي على الحسابات هتلاقي ظرف بإسمك هناك!
ابتسم لهالطبيب وهو يطرق رأسه ممتناً:
شكراً ياأستاذ مالك، عن أذنك!

التفت ليغادر المكان بينما استدار مالك ونظر للأعلى بنظرات مترددة، ما الذي سيفعله جراء ما حدث لها…
تسمر في مكانه حائراً، وتساءل مع نفسه بتخوف وقد تحولت قسماته للوجوم..
ربما يكون هو سبباً من أسباب الحالة التي وصلت إليها بجانب وفاة الراحل والدها، والذي أحدث أثراً سلبياً بازغاً فيها..
تنهد بثقل ليطرد ذلك الهم خارج صدره ولكنه عجز، وبخطوات متباطئة إعتلى الدرج…

في هذا الآن، كانت راوية تربت على كفها بهدوء وعطف حتى أحست بها الأخيرة وشرعت بتحريك جفنيها بتثاقل شديد، وكأن يداً حجرية ثقيلة تغطي عليهما لمنعها من الأفاقة.
ولكن المثير هو تلك الرائحة التي أدخلت البهجة داخلها، كأنه قريب منها يتأمل سكونها، راحت ترى بمخيلتها ما تتمنى تحقيقه…

كان يقف قبالتها ببسمته المعهودة والعذبة، ثم مسح على وجنتها برفق وهي يسألها بنبرة معاتبة ولكنها مهتمة:
فيكي إي يا إيثار؟
قبلت بطن كفه الملامس لصدغها، ثم أسبلت بصرها وهي تنطق بصوتاً متحشرجاً يختلجه البكاء:
تعبانة من غيرك!
اختنق صوتها وهي تكمل بتساءل:
ليه كل ده بيحصل؟!
تنهدت بآسى، وإنسابت العبرات من مقلتيها وهي تقول:
ياريتك ما رجعت، يمكن كنت هفضل مشتاقة أشوفك أهون عليا ما تكون جمبي وكارهني!

رد عليها مالك بصوت شجي وقد نطق وميض عينيه الذي لمع تأثراً بحديثها:
عمري ما كرهتك، انتي حلمي الصعب والمستحيل، إحكيلي ياإيثار، اشتكيلي مني!
أخرجت تنهيدة تحمل الكثير من التأوهات من صدرها المثقل بالأوجاع، ثم أراحت رأسها على صدره وأغمضت عينيها تاركة العنان لعبقه يتخلل حواسها، سحبت شهيقاً وأطلقته زفيراً متريثاً لفح صدره المرتاحة عليه ونطقت بنبرة دافئة خافتة تحمل بين طياتها مشاعر الاشتياق:.

متسبنيش، انا ضعيفة من غيرك، أنا بقيت شوية فتافيت يا مالك!
همس لها مالك وهو يمسح على رأسها بلمسات سحرية جعلتها تسافر منه لعالم أخر:
انا جمبك ومش هسيبك، انا مصدقت رجعتيلي، فوقي ياإيثار، عشاني وعشان ريڨان، فوقي!

( مدام إيثار فوقي بقى، الف سلامة عليكي ده انتي خدتي عين والله )
فتحت عينيها المنتفختين بتثاقل فجأة لتنصدم بالواقع الذي تعايشه، إنها راوية التي تحدثها، وليس حبيبها الذي دق القلب له أولاً وأخيراً..
كان حلماً تمنته في مخيلتها فقط ولكنه لم يحدث..
حدقت بها وهي لا تستطيع تذكر آخر ما حدث لها، فخرج صوتها متحشرجاً ضعيفاً وهي تقول بتساءل:
في ايه! ايه اللي حصل؟
أجابتها راوية وهي تبتسم لها بعذوبة شديدة:.

أبداً مفيش، أغمى عليكي بس الدكتور طمنا!
حاولت الاعتدال في نومتها، ولكنها شعرت بإهتزاز الأرض من حولها وزوغان حدقتيها..
فأطبقت جفنيها للحظات لتستعيد توازنها، ثم فتحتهما ببطء، وجابت بنظرات سريعة المكان من حولها، فأيقنت أنها متواجدة بحجرته..
خفق قلبها بقوة، وتسارعت نبضاته وهي تتحسس فراشه بصورة متوارية ثم غطت وجهها بكفيها وهي تقول بحزن آليم:
عايزة أمشي، مكنش المفروض أجي وانا تعبانة كده!

دخل مالك إلى غرفته بخطوات بطيئة ثم دس كفيه بجيب بنطاله وهو يهتف بلهجة آمرة:
أنزلي أعملي عصير لمدام إيثار يا راوية، وشوفي ريڨان لسه نايمة ولا صحيت!
سلط أنظاره على إيثار التي أطرقت رأسها حرجاً منه، بينما نهضت راوية عن جلستها ثم أبعدت بصرها وهي تعبر من جواره بصمت..

بقي الاثنين بمفردهما، فزاد التوتر في الأجواء، وقررت التصرف فوراً، لا مجال للبقاء هنا، هي أخطأت في القدوم، وتسببت في إرباكه، وربما يظن بها أنها افتعلت هذا ليرق قلبه إليها..
ابتلعت ريقها بتخوف من ظنونه، و استجمعت توازنها لكي تنهض عن الفراش لتترك الفراش، فكفى بها ما حدث لها اليوم، ولكنها تفاجئت به يدنو منها وهو يهتف بنبرة هادئة:
انا مستعجلتش في حضورك، كان ممكن تستني لما تبقي أحسن وبعدها تيجي!

زاد إرتباكها وخوفها منه، وردت عليه بصعوبة وهي تتحاشى النظر صوب مالكها:
معلش! انا اللي كنت مصممة أنزل عشان أشغل وقتي!
لمست الأرضية بقدميها وكادت تقف ولكنه أشار لها لتتوقف عن المحاولة مبرراً لها بأن مازال عليها تجرع مشروباً سكرياً..
ولكن الحقيقة هو يرغب في بقائها لأطول وقت ممكن..
وبلا تردد نطق بصوت آمر ولهجة اعتاد عليها مؤخراً:.

خليكي، راوية هتعملك عصير وبعدين هخلي السواق يوصلك، مينفعش تمشي وأنتي بالحالة دي!
بب ب، باب، ا
كانت الصغيرة ريڨان قد أستيقظت للتو وحضرت لحجرة أبيها وهي تحبو على الأرضية، ثم استقامت واقفة لتتعالى ضحكاتها..
كان صوتها گذقذقة العصافير في أذنيها، فابتسمت بشكل لا إرادي وهي تنظر نحوها، بينما دنا هو منها وحملها عن الأرضية وهو يغزو وجهها بقبلاته مردداً:
حبيبة بابي!

أشارت ريڨان نحو إيثار فأستشف أنها ترغب بها، فرفع أنظاره نحوها، فوجدها محدقة بهما، فإبتسم بعذوبة، واقترب منها فوجد الصغيرة تميل بجسدها عليها وهي تفتح ذراعيها داعية إياها بأمر غير منطوق لتحملها..
التقطتها إيثار بحب وهي تردف بنبرة مشتاقة لها:
وحشتيني
وضعت الصغيرة يديها حول عنقها ثم أراحت رأسها على كتفها، شعرت وكأنها قطعة منها تشفي كل ما بها من آلام..

لم يكن الوضع مثيراً للذهول بالنسبة لمالك، فهو يعلم مدى تعلق طفلته بها بفترة وجيزة للغاية وقد أحب هو ذلك لصغيرته التي وجدت حضناً يحتويها معوضاً النقص الذي عانت منه لشهور.
تراجع بخطواته للخلف ثم ترك الحجرة لهما ينفردا بها وهبط يسأل راوية هل انتهت من إعداد المشروب أم لا..
كانت راوية في طريقها إليها تعتلي الدرج بعد أن انتهت للتو من تجهيزه، وفي تنهد براحة عندما وقعت عينيه عليها ثم هتف قائلاً:.

خليكي معاها لحد ما تشربه!
ردت عليه راوية وهي تثني على فعلته بإعجاب: ربنا هيجازيك خير يامالك بيه ان شاء الله!
حرك رأسه بإيماءة خفيفة وهو يرسم بسمة مزيفة على محياه ثم تركها وأكمل طريقه لغرفة المكتب خاصته…

وقفت تبكي بتحسر وهي تندب حظها العثر الذي أوقعها في هذا البلاء الذي تعيشه الآن، لطمت على صدغيها، وأطرقت رأسها في خزي وإذلال..
لم تعد ترغب بالرفاهية والحياة المنعمة، بل تتمنى لو تعود بها الحياة إلى سابق عهدها، ترغب في العودة لراحتها القديمة التي تفتقدها..

نعم، كانت تعيش في كنف أبيها مدللة، فتزوجت من جعل منها وسيلة لتحقيق أغراضه الدنيئة طمعاً في المبلغ المالي الضخم الذي كان سيحصل عليه من والده للإنفاق على تكاليف زواجه المزعوم..
والآن هي تعاني ويلات لا حصر لها حينما رفضت الإنصات إلى والدتها التي لم ترغب في تلك الزيجة منذ البداية، وحذرتها كثيراً من مغبة تلك المجازفة الغير مدروسة، ولكن كان طمعها گالمرض الذي ينهش لحم صاحبه ويتركه عظاماً..

هي الآن في حضرة وكيل النيابة عقب تحويلها إلي السفارة المصرية ومنها للنيابة بعد ترحيلها سجينة من الخارج..
شعور بالإنكسار المصحوب بالذل سيطر عليها كلياً..
حدجها والدها مدحت بنظرات ساخطة على صمتها طيلة السنوات السابقة وإيهامهبكونها تعيش گالملكة المتوجة في قصر زوجها..
بينما قطع وكيل النيابة هذا الصمت المريب وهو يقول بلهجة جامدة:.

أكتب عندك، قررنا نحن وكيل نيابة((، )) الإفراج عن المتهمة سارة مدحت عبد التواب بضمان محل إقامتها وعقب تسديد مبلغ الكفالة المطلوبة!
ثم رفع رأسه لينظر نحوها بجمود، و أشار لها بيده وهو يتابع بصرامة:
اتفضلي امضي هنا وامشي، لولا والدك انتي كان زمانك متبهدلة في الاقسام!
ابتلعت سارة أهانته التي كانت گالعلقم في حلقها، ثم أمسكت بالقلم بأصابع مرتعشة وهي تبكي بندم شديد…

سبقها والدها للخارج وهو يكافح للسيطرة على إنفعالاته..
التفت ليرمقها بنظرات احتقارية تقلل من شأنها وهو يردف بجمود وقسوة:
ليه عملتي كده في نفسك ياسارة؟!
وضع كفيه على كتفيها، ثم صرخ بها بعصبية وهو يهزها بعنف:
ازاي تقبلي كده على روحك!
إنهارت سارة باكية بمرارة وحسرة، فأرخى قبضتيه عنها، وارتمت بين أحضانه لتكمل بكائها الحارق المصحوب بالخزي الشديد..
اختنق صوتها، وهمست بمرارة:.

مكنتش أقدر تقول حاجة، كان لازم اتحمل نتيجة طمعي لوحدي!
أشفق مدحت على حالها البائس، هي أخطأت، وأساءت إلى نفسها بطمعها، ربت على ظهرها بحنو، ومسح بكفه وهو يضيف معاتباً:
غلط يابنتي، علاج الغلط بالغلط ده أكبر غلط، انا كنت حاسس ان في حاجة ورا استعجاله وحذرتك قبلها، لكن إنتي كنتي راكبة دماغك ومصممة، ودي النتيجة!
انتحبت سارة بأنين خافت وقد شعرت بصدق قوله الذي زاد من اشتعال صدرها واحتراقه:.

ده عقاب ربنا ليا، ده عقابه ليا، آآآه!
ما كان منه إلا الصمت أمام بكائها الحار والشديد الندم..
لم تتوقف قط طوال طريقها للعودة لمنزلها..
لم تعد تشعر بطعم الحياة بل بالموت، ربما يكون راحة لها من هذا الذي عايشته طوال هذه السنوات..
هي مذنبة في حق نفسها ومجرمة حيال حرمتها گإنسانة، لذا كان عليها تجرع العذاب كؤوساً مضاعفة لكي تتفهم حقيقة الدرس جيداً…

تأهب مالك بنفسه ليقوم بمهمة توصيل إيثار إلى منزلها، لن يتركها على تلك الحالة الواهنة، بل لن يجرؤ قلبه على تحمل رؤيتها ترحل دون أن يطمئن عليها..
وكانت ريڨان هي الأخرى مستعدة للذهاب معها، فخرجت بها من الفيلا وهي تحملها وتداعبها بسعادة..
نعم فهي باتت سلواها في وسط بحور أحزانها..
لم تعلم إن مالك بإنتظارها في السيارة، فهي على إعتقادها بأن السائق هو من سيتولى مهنة توصيلها..

حمدت الله في نفسها أنها لن تضطر لإستقلال أي وسيلة مواصلات بمفردها، فأعصابها مشدودة، وجسدها مرهق بصورة كبيرة..
وضعت الصغيرة على مقعدها الخاص بالمقعد الخلفي، وأحكمت ربط حزام الأمان، ثم أغلقت الباب بهدوء..
رفعت رأسها للأعلى لتحدق في السائق، لكن اتسعت حدقتيها بصدمة حينما رأت مالك يجلس خلف المقود
ويشير لها بيده لتجلس على المقعد الأمامي بجواره..
توردت وجنتيها خجلاً منه..

ذلك التورد الذي لم يعرف الطريق إلى قسماتها إلا معه هو فقط..
هو خجل خاص به وله..
ازدردت ريقها بحذر، وهزت رأسها معترضة بحرج بادي عليها، وهتفت نافية بإستحياء:
لالا ملهوش لزوم، انا هاخد تاكسي!
حدجها بنظرات قوية، ولم يترك لنفسه المجال للتفكير، بل ترجل من سيارته، واستند بساعده على سقفيتها، ثم لوى ثغره ليردد بضجر:
بصي يا مدام إيثار!

أثار ضيقها بوضوح ظاهر على تعابير وجهها بنعتها ب ( مدام )، بينما تابع قائلاً ببرود:
أنا كده كده رايح عند عمتي، يعني في طريقي، وانا مش متكلف حاجة، ياريت تتفضلي عشان الوقت!
نظرت له بذهول قليل، فهتف بها بجدية:
يالا، مش عاوز أضيع وقتي!
انصاعت لرغبته دون إبداء أي مقاومة، وربما تكون رغبتها تلك في شغفها للقرب منه..

استقلت السيارة معه، وحافظت على بقاء مسافة بينهما، ثم التفتت برأسها لترى الصغيرة وهي تتداعب الكرات الصغيرة المعلقة في مقعدها..
لاح على ثغرها إبتسامة ناعمة لم تستطع اخفائها لبرائتها..
وتأملها هو بنظرات مختلسة أشبعه عطشه إلى حبها القديم..
اعتدلت في جلستها، وانكمشت على نفسها أكثر..
حضوره الطاغي، وقربة الشديد يؤثر بها، ويشتت تفكيرها..

تأملت حركات يده من زاوية عينها وهو يحركها متنقلاً بين المقود والمكابح وكأن حنينها بات غير مخفياً..
استشعر بقلبه نظراتها، لكنه لم يحاول النظر إليها، أراد أن يحافظ على جموده، لكن هيهات، وما للقلب من حاكم!
توقفت السيارة في إحدى الإشارات المرورية فمرت عليه طفلة تمسك بيدها بعض زهور الفل والياسمين المعقودة مع بعضها البعض، فقربتها منه وهي تمد يدها داخل السيارة ثم هتفت بإلحاح شديد لتثير تعاطفه:.

: والنبي ياسعات البيه تاخد الفل، ربنا يخليلك الهانم يارب وتفضلو مع بعض طول العمر، خده مني!
فغر فاهه بذهول من عبارتها وهو يرمقها بنظرات جامدة رغم صدمته..
شعرت إيثار بالقلق من ردة فعله نحو تلك الفقيرة، فأشارت لها بيدها وهي تقول ببسمة عذبة:
تعالي ياشاطرة
ركضت الفتاة للجهة الأخرى من السيارة وقد اتسع فمها بإبتسامة حماسية وصاحت بتفاؤل وهي تمد يدها لها بالزهور:
اللهي ربنا ما يحرمك من نور عنيكي ياست هانم!

أخرجت إيثار من حقيبتها بعض النقود ثم أعطتها لها وهي تبتسم، تناولت منها عقدين من زهور الفل والياسمين وقالت لها بخفوت:
شكراً
طالع مالك تصرفها بغرابة وهو قاطب جبينه..
هي كما اعتادها قبل سنوات، عفوية ونقية گسماء زرقاء صافية عقب ليلة هوجاء عصفتها الرياح والأمطار..
أمعنت في تعابير وجهها المرتخية بإرتياح..
ها هي تبتسم، ها أنا أرى غمازتيها تتشكلان لتأسرني مجدداً..

أفاق من هالة سحرها، والتفت برأسه سريعاً حتى لا تلتفت هي وتلاحظ نظراته الشغوفة لها..
طيلة سنوات غربته رسم لها رداء الطمع والخيانة ولكنه لم يره أبداً يليق بها..
لم يكن لها، بل لم ينطبق عليها، ولكنه أجبر نفسه على رؤيتها كذلك.

رجا الله في نفسه وتضرع إليه خفية أن ينير طريقه ويهديه، هو گالضال، لا يعلم ما يدور حوله، متخبطاً مذبذباً، وبأقل همسة منها يعصف كيانه وتدور الرياح من حوله، ويسقط صريعاً في بئر غرامها…

وصلت سيارته على أول الطريق المؤدي للبناية التي تقطن بها، فصفها، وأفلت حزام الأمان عنه واستدار بوجهه ليبلغها بعدم قدرته على الإنصفاف أمام البناية مباشرة، ولكنه وجدها تضع حقيبتها على كتفها وتستعد للنزول من تلقاء نفسها، فأثر الصمت حتى لا يفسد وهم هدوئه المقنع…
ترجلت من السيارة، وخطت نحو بنايتها بثبات..
حرك رأسه قليلاً، فلفت انتباهه أنعقاد الزهور في مرآة السيارة الأمامية…

اتسعت حدقتيه بصدمة، ومد يده بشكل تلقائي لكي يلتقطها..
قربها من أنفه، وأشتم رائحة الياسمين النفاذة في الزهور بهوس عجيب..
أغمض عيناه ليستمتع بذلك السحر الذي تخلفه ورائها..
وتسائل في نفسه بإندهاش، هل شرد بقوة لدرجة تصل إلى عدم انتباهه لفعلتها تلك؟
بدى كما لو كان بعالم آخر غير واقعه الذي يرفضه هذا..

فتح عيناه، و تلمس الزهور برقة، وتأمل بياضها وألوانه المثيرة للفرحة، ثم ابتسم وهو يلتقط زهرة منهن ليحتفظ بها..
عقد البقية في المرآة وهبط عن سيارته…

ولجت إيثار عبر باب المنزل ثم صفقته بهدوء لتجد أمامها عمرو، مرتدياً قميصه وبنطاله الأسودان مستعداً للهبوط..
لم تعره الاهتمام، و تحركت للداخل، و تركت الحقيبة عن كتفيها وكادت تجلس إلا أنه إستوقفها بعبارته قائلاً بعذوبة:
إيثار، انا هنزل أجيب أكل، قوليلي نفسك في إيه!
استدارت برأسها نحوه، ونظرت له بعدم إكتراث، ثم ردت عليه وهي تشير بيدها نافية:
لا شكراً، انا هغير هدومي وادخل اعمل أكل لنفسي!

اقترب منها عمرو، وحاوط كتفيها بذراعه، وأردف قائلاً بإصرار وهو يبتسم لها:
لأ، هجيب أكل ومش هتعملي النهاردة، بس قوليلي نفسك في إي؟
تنهدت إيثار بإرهاق عقب حركته المباغتة ثم تهدل كتفيها بحزن، هي لم ترغب يوماً أن يصل الحال بينها وبين أخيها لهذا الجفاف والرقود، ولكنه من دفعها لكل تلك العدائية التي حملتها تجاهه..
هي لم يعد لديها المزيد لتخسره..
عليها اتخاذ هذا القرار الذي لم تتخذه منذ ثلاث سنوات..

التفتت لتنظر له بعين الاشتياق وهي تقول بهمس:
هاتلي عسلية، بس تبقى بالسمسم!
كانت رسالتها بالسماح والعفو عنه أكثر الأشياء فرحة وبهجة، أرتفع نَهَدَيه بنفس عميق ثم احتواها داخل أحضانه لتسكن جوار نبضات قلبه المشتاقة إلى دفيء أخته الصغرى..
أه يا حبيبتي، كم اشتقت لحضنك الدافيء، وروحك العذبة..
انحنى ليقبل رأسها، ثم حاوط وجهها براحتيه، وهتف بفرحة جلية:
انا هنزل أجيبلك محل العسلية بحاله وأجي على طول!

كانت تحية تقف على عتبة المطبخ لتتابع فلذتي كبدها..
ابتسمت بسعادة وهي تراهما معاً..
رقص قلبها طرباً لأول مرة منذ سنوات، وتركت عبراتها تنسال عنها وهي تكفكفها، ثم رفعت يدها لمولاها وهي تحمد العزيز الرؤوف على هداية حبيبيها لبعضهما مرة أخرى، وهبطت ببصرها مرة أخرى لتتلاقى بعيني إيثار التي بعتث لها الأمل بنظرة واحدة فقط، لكنها حملت الكثير من الحب والمسامحة…

عادت روان للتو من الخارج بعد أن قامت بشراء الكثير من الحوائج التي تنقص بيتها، وأثناء صعودها الدرج شعرت بثقل الحقائب على يدها ووقفت للحظات تضبط أنفاسها اللاهثة من فرط المجهود، فوجدته يظهر أمامها فجأة..
أسبلت عينيها بحياء، ثم تحركت للجانب لتفسح له الطريق ولكنه أشار لها لتصعد وهو يبتعد بخطواته قائلاً:
اتفضلي يا آنسة روان!
ابتسم له روان بخجل وهي تصر على رأيها قائلة:
لا أتفضل حضرتك.

رد عليها عمرو وهو يهز رأسه برفض شديد:
أبداً والله ما يصحش!
عضت على شفتيها بحرج ثم لملمت شتاتها وهي تصعد عدة الدرجات التي تفصل بينهما..
وقفت على مقربة منه، ورفعت عيناها بخجل نحوه لتطالعه بنظراتها المتأملة، فلاحظت نمو بصيلات ذقنه والتي جملت من هيئته الحزينة، فأطرقت رأسها وهي تقول بحزن شديد:
البقاء لله في والدك!
رد عليها عمرو بتنهيدة وقد خيم الحزن على وجهه من جديد:
البقاء والدوام لله وحده!

وقع بصره على الحقائب البلاستيكية العديدة التي تحملها ففكر سريعاً في مساعدتها وبشكل تلقائي هتف:
تحبي أساعدك في حاجة؟
أجابته روان وهي تهز رأسها بنفي:
لا شكراً، عن أذنك!
كادت تمرق من جواره ولكنها انتفضت بهلع، بل ارتجفت بخوف كبير…
نعم شعرت برعشة تسرى بأوصالها على إثر صوت أخيها وهو يهدر بها:
روان!
التفتت بفزع نحوه، وتسمرت في مكانها مصدومة…
أدرك عمرو سبب خوفها، وأسرع موضحاً حسن نيته، فتساءل بنزق:.

ازيك يامالك؟
هدر مالك بعنف متجاهلاً حديثه له وهو ينظر حيال أخته الصغرى بنظرات مشتعلة:
بتعملي إيه عندك؟
ازدردت روان ريقها بخوف، وأجابته وقد تلعثمت الحروف على لسانها:
آآ نا…!
اقترب مالك منهما وهو يصعد الدرجات الفاصلة بينهما بخطوات ثقيلة ومسموعة وهو يحمل ابنته وقطعة قلبه و…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى